المهن المنبوذة في الريف اليمني بين الإرث المتجذر والسلوك الحضاري

2021-07-16

 تعز:رشيد سيف
 "أنت جزار ما معك عقل، قيمتك ألف ريال ياحلاق، روح اختن لك جاهل يامزين وخليك بعيد مننا". تكثر جُمل التهكم هذه وغيرها من الجمل التقزيمية في الريف اليمني بشكل عام وفي الريف الجنوبي لمدينة تعز بشكل خاص، تجاه أرباب هذه المهن، و مهن أخرى ينبذها المجتمع، تتشابه في الريف والمدينة في آن معا، لا يتسع المجال هنا لذكرها كاملة والخوض في تفاصيلها المُرة".
لكن الأمر الأكثر أسفا يكمن في بروز هذا الانتقاص والاحتقار، الذي يمارس دون يقظة للضمير كظاهرة اجتماعية من قبل جامعيين وناشطين، ممن يعول عليهم في رفع مستوى المبادئ والقيم الإنسانية، التي تراعي مشاعر الإنسان اليمني، وتقدره في صالون الحلاقة والشارع والمدرسة وغيرها من الأماكن، التي يعمل بها هؤلاء البسطاء منذ عشرات السنين بتفان وحب؛ بغية الحصول على لقمة العيش الكريمة لأسرهم المتوسطة منها والكبيرة
ويبدو أن المناطق القبلية في اليمن كلها تعيب هذه المهن، ويكبر اعتقادها بأنها عار وأكثر، وبالطبع لا يقتصر الأمر على الأرياف القبلية فحسب، بل يجزم تعميمه على أغلب الأسر ذات المكانة الاجتماعية الجيدة، إذ إن الأمر بدأ جليا في أحاديثهم المعبرة عن امتعاضهم من ممارسة تلك المهن في الجامعات والأسواق وعلى وسائل النقل بين المدن، التي يمكنني تلخيصها بين قوسين بلهجة دارجة " أنا ابن فلان أو من عائلة كذا اشتغل حلاق؟" وهذا نموذج حي وعابر يردد باستمرار في الوسط المجتمعي بلا حجة واضحة ولا منطق حاضر. هذا التعالي أحدثه الفراغ واللا إنسانية.
وبين ممارسي تلك المهن المنبوذة اجتماعيا ثمة خريجو جامعات ومثقفون و موظفون في القطاع الخاص والحكومي أجبرتهم ظروف المعيشة العصيبة التي فاقمتها الحرب بين الفرقاء اليمنيين، وما زالت تتسع رقعتها أكثر فأكثر للعام السابع على التوالي على العودة للعمل في الأرياف والأسواق الشعبية بمهن يراها المجتمع بمثابة خطيئة ترتكب، رغم حاجته الملحة لها على الدوام في خصف الأحذية أو الحلاقة ، إلى جانب ختن الأبناء.
مروان (32 عاما) خريج تاريخ ، لم تنزل درجته الوظيفية بعد، انتظر كثيرا لكن دون جدوى ، فاضطر للعمل جرشبل (مساعد سواق) في فرزة ما جنوب تعز اليمنية .
يقول في حديثه لـ"الأيام" أصفي بيومي 3000 ريال، وأعيش مع عائلتي براحة، تزعجني كلمة ياجرشبل من طلاب مسافرين عدن أو العكس، بس اتحمل عشان رزقي".
يربح مروان نحو 3 دولارات أمريكية يوميا بصرف مركزي عدن، وينفق على أسرة مكونة من ستة أشخاص، خلاف مصاريفه اليومية حد قوله.
وبحسرة رجل بمقتبل العمر يواصل حديثه لـ"الأيام" حتى لو استقرت البلاد ونزلت درجتي الوظيفية سأظل أعمل كراني، مشيرا إلى أنه انسجم مع بيئته الحالية ولا يرغب في استبدالها".
ومع ازدياد حالة العنف الخطابي للعاملين في هذه المهن، يعزف كثير من اليمنيين عنها خشية انتقاد الأهل وازدراء الأصدقاء ومراقبة ما سيقوله الناس دون التفكير في أن الجميع يستفيد من مختلف المهن، وأن غياب إحدى المهن يؤثر في خطط التنمية وتطور الغد.
ومثل مروان، يعمل مئات اليمنيين في أعمال لا يتقبلها المجتمع بسهولة، لكنهم يواجهون تلك التحديات بسلاسة لا متناهية بشكل يومي، متسلحين بالمثل الشائع: "ساير عقول الناس بما حملت".
ويشير تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن اليمن واحدة من الدول التي تطبق قوانين يمكن استعمالها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لحظر خطابات الكراهية بمختلف مظاهرها.
وفي هذا السياق تقول الدكتورة سامية الأغبري ، رئيسة قسم الصحافة بكلية الإعلام في جامعة صنعاء لـ"الأيام" إن انتقاص المهن في الريف إرث تاريخي واجتماعي سببه التميز بين الطبقات من عقود ما قبل الثورة (عهد الإمامة) كان ينتقص من المهن والهواية مثل الحلاقة وغيرها، وحتى الفن المتمثل بالغناء والرقص والأعلام، وتضرب مثلا بالشاعرة الشعبية غزالة المقدشية وتضيف لـ"الأيام" كان اسمهم أولاد الخمس في شمال اليمن، وهو موروث ثقافي واجتماعي سلبي سائد".
"من الناحية القانونية بعد ثورة سبتمبر كان القضاء على كافة أشكال التمييز هو الهدف الأساسي، وتذويب الفوارق بين الطبقات، والقضاء على الجانب العنصري، حتى أن الدستور اليمني يمنع التمييز بين الناس في الجنس أو اللون أو الطبقة أو الفئة الاجتماعية فكل المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات بشكل عام .
وترى سامية الأغبري أنه يجب دائما النظر إلى كل المواطنين بإنسانية بغض النظر عن انتمائه المناطقي أو القبلي أو العشاري أو الطبقة الاجتماعية مؤكدة أن لهم حق القول والرفض مهما كثرت الاختلافات".
وتواصل: "التهميش في الفترة الحالية الذي يوجه للمهمشين أو العبيد أو العاملين في المهن الأخرى، المهن التي تعتمد على الإنتاج بواسطة العمل العضلي، مازالت محتقرة، ينظر إليها بدونية، وخاصة مع انهيار مؤسسات الدولة ومفهومها والمواطنة المتساوية في الحقوق والسلطة"، حتى أن المرأة تهمش ويمارس ضدها العنف البدني واللفظي في البيت والشارع والجامعة، ووصل تعنيفها للقتل، وهو أمر يعارضه القانون، ويشجعه الموروث الثقافي والموروث الديني المغلوط.
وتنحصر ممارسة هذه المهن والمشابهة لها على فئة بذاتها، وليس هناك إقبال عليها من الناس نتيجة الارتباط المتجذر بالقيود الاجتماعية في الريف التعزي، وغيره من الأرياف في مختلف أنحاء اليمن.
وفي الصدد ذاته، يشير الناشط المجتمعي رائد البعني إلى أن اللفظ السيء يمثل تدني الوعي الذي يعانيه اليمن في أوساط العامة، وانتقاص هذه المهن مشكلة متجذرة، وينبغي علينا كحركة شبابية معارضتها، والتشجيع على استهجان ممارستها، خاصة في ظل ارتفاع معدل البطالة الذي خلفته الحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات، مواصلا "سنتغلب عليها إذا توحدت الرؤية والقناعة أنها مهن يجب أن تحترم وتقدر في الريف والحضر".
فاروق ،ثلاثيني، خريج لغة عربية، أدرك مبكرا أن الوظيفة لن تأتي، خاصة في ظل الوضع المتأزم سياسيا واقتصاديا وأمنيا، فمضى يرمم حياته الخاصة مع مهنة الحلاقة قبل ثلاث سنوات.
"الخبرة المسبقة في الحلاقة موجودة عندي منذ كنت صغيرا، منحتني فكرة لفتح صالون حلاقة في إحدى عزل مديرية المعافر من ثلاث سنوات تقريبا، وحاليا مستمر في عملي"، ويستطرد: "كلام الناس والزبائن جارح نوعا ما، ولكن أموت جوعا لأن الناس يعاتبوني: خريج وحلاق. خلهم يتكلمون لما يقرح رأسهم مش مهم" بويل هذه الكلمات يروي فاروق تجربته لـ"الأيام" معبرا عن أسفه إزاء تدني الوعي لدى كثير من أهالي العزلة.
وتعارض القيود القبلية وبعض الطبقات الاجتماعية بأعلى الهرم في الريف التعزي تقوية الروابط الاجتماعية بواسطة الزواج من أسر العاملين في المهن المعيبة باعتبارهم أسفل الهرم الاجتماعي حسب اعتقاداتهم والعكس، إذ يعجز الحلاق مثلا عن الارتباط من ابنة دكتور أو معلم أو شيخ قبلي.
ومع غياب الدور الفعال للحكومة والمنظمات المدنية والحقوقية، تتزايد النظرة الدونية نحو الأسوأ، وتتعقد العلاقات الاجتماعية بتعقد القيود التي يفرضها المجتمع على ممارسي المهن، الأمر الذي يضاعف عوائق التعايش والاندماج في الريف الواحد والمدن الكثيرة.
"تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR - صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا".